السبت، 22 يونيو 2013

الحب والحياة .. في مترو الأنفاق

رأيتها على  رصيف حلوان المقابل .. كنت وقتها في الثالثة والعشرين من عمري أعزب وليس عندي تصور ما للفتاة التي من الممكن أن أحبها .. ولكني عرفت أنها الفتاة المنشودة عندما رأيتها واقفة تنتظر المترو على الرصيف المقابل ، وقتها أرتبكت لم أدر ماذا افعل ؟!
تخيلت نفسي أني  سأقفز على القضبان وأعبر للجانب الآخر وأتحدث معها .. ولكني لست هذا الشخص الشديد الجرأة .. ومع هذا فكرت جدياً في تلك الحركة .. وأخذت أفكر وأفكر .. كانت رؤيتي لها وشعوري بأني ربما أفقدها للأبد يدفعاني لإرتكاب تلك الحركة المجنونة .. ما هي إحتمالات أن تراها مرة أخرى ؟! ،  كنت أشعر بغليان من الداخل وأكاد أُجن .. كان كل ما يفصلني عنها مجرد شريط مترو ..
هل هذه هي الحقيقة ؟!
لا .. حتى لو عبرت هذا الشريط .. هل سأمتلك الجرأة لأكلم فتاة لا تعرفني وأقول لها كلام عن الحب .. لا شك ستظنني مجنون .. لا يمكن أن تتصور أي شئ غير هذا.
صافرة إنذار قادمة من رصيف حلوان تعلن عن قدوم المترو .. ها هي سترحل .. لا زالت لدي الفرصة .. المترو لم يأت بعد .. أستطيع أن أقفز وأن أركب معها في نفس العربة وأن أنزل معها وأفتعل أي شئ لأكلمها .. المترو يدخل المحطة ببطء وصافرة إنذار أخرى على رصيف المرج الذي أقف عليه ، أظن أن هذا هو الوداع ... ما حدث اليوم هو المنطق .. الحياة تسير معي بالمنطق دائماً.. لم تمنحني لحظة واحدة من الجنون .. ولا أعرف في الواقع هل هي من فعلت ذلك أم أنا الذي فعلت.
مرت الأيام ونسيتها تماماً.. لم يأخذ الأمر وقتاً طويلاً ولم أتألم كثيراً.. ولكن الشئ الوحيد الذي بقى هو صورتها .. لم أعد أحبها هي بذاتها ولكني أعشق صورتها .. روحها التي بُثت إليّ  عند رؤيتي لها .. أصبحت في عقلي هي النموذج الذي أقيم عليه أي فتاة أراها .. شعرت أن هذا شئ من الجنون ولكنه جنون مطمئن .. جنون داخلي وأفكار وخواطر لم ولن أسمح لأحد أن يشاركني فيها .. خطر الجنون الوحيد يأتي عندما يعرفه الناس .. عندما يعرفون أنك مجنون تبدأ المتاعب
وفي الخامسة والعشرين من العمر رأيتها .. هي هي وليس شخص آخر .. وأيضا في مترو الأنفاق .. وهذه المرة على رصيفي .. رصيف المرج.. وترتدي نفس الملابس التي كانت ترتديها منذ سنتين .. لا يمكن أن أنسى صورتها..
هذه المرة لا يفصلني شريط مترو .. حتى هي لا تقف عند عربة السيدات .. أستطيع أن أركب معها .. أن أنزل معها المحطة وأعرف بيتها .. احتمالات كثيرة تدور في رأسي وقصص كثيراً أختلقها .. لا يمكن أن يكون تواجدها هنا مجرد صدفة .. القدر لأول مرة يتصرف معي بجنون.. أقتربت أكثر كي أقف على مقربة منها ، فقط مسافة مناسبة تجعلني أركب معها في نفس العربة.. تعجبت أنها كل هذا الوقت لم  تلاحظ أني أنظر لها ، في المرة السابقة لم تنظر لي أيضاً.. رغم أني لم أزح عيني من عليها .. وكأني غير مرئي ، كان هذا يضايقني أكثر من أي شئ آخر .. لماذا لا تنظر لي ؟ لماذا حتى لا تنظر للجهة التي أقف فيها ؟
عندما ركبنا في العربة كانت قليلة الزحام.. جلست هي ووقفت أنا بعيداً أنظر إليها .. أخرجت من حقيبتها كتاب لتقرأ فيه .. إذاً لن تنظر إلي أبداً.. جائت محطة غمرة وتدفقت الكتل البشرية بشكل فجائي وعجيب .. مجندين وصعايدة وفلاحين وباعة جائلين .. وكأنه آخر مترو في الوجود.. الزحام حجب الرؤية عني  ومنعني من معرفة أي محطة ستخرج فيها .. أما هي فبالزحام أو بدونه زحام لن تراني .

أعطاني القدر في هذا اليوم لمحة من الجنون .. ولكنه سرعان ما ذكرني بحقيقة أن جنون الحياة ليس قدري .. أنا خُلقت لأعيش حياة واقعية ..
هذه المرة كان كل حزني على نفسي وكل غضبي من نفسي ... الفتاة وحبي لها مجرد رمز .. ليست المشكلة أن أعرفها أم لا .. المشكلة أني راجعت كل شئ في حياتي ووجدت أن الحياة نفسها مثل تلك الفتاة التي أحبها .. لا تنظر إلي .. تهل علي كل  فترة .. وعندما تهل لا يحدث أي شئ .
جاء سن السابعة والعشرين .. وفي نفس المترو ونفس الرصيف ونفس الفتاة بنفس الزي ونفس الهيئة ..
ها هي الحياة تقف أمامي .. ها هو حب العمر وتحديه .. ها هو القدر يتحداني من جديد .. الحياة أمامك ولن تطولها .. في الواقع لا يفصلك عنها شئ .. ولكنك لن تطولها
هذه المرة لن تكون مثل أي مرة .. لا يمكن أن تمر على خير ..
إنها تقف أمام عربة السيدات .. القدر عرف بقوة عزمي وإصراري هذه المرة فصعبها  عليّ أكثر .. ولكني سأفعلها ..

المترو قادم الآن .. وها هي على وشك الركوب ولا وقت لأن أوقفها .....سأركب معها عربة السيدات .. ربماً يُقبض عليّ ، ربما تصورني إحدى السيدات بالفيديو وتضعه على اليوتيوب تحت عنوان :" متحرش يركب عربة السيدات" .. لا يهم .. القدر لا يمنحني الجنون .. سآتي به أنا لنفسي
قفزت في العربة وكانت مكدسة بالنساء .. انهالت علي عبارات السباب وضربتني سيدة ما بالشبشب.. صرخت فيهم بصوت عالي وقلت :" يا جماعة ..  انا اسف .. بس أنا عاوز أكلم الآنسة دي في موضوع مهم  بقالي فترة وكل ما آجي أكلمها تحصل مشكلة تمنعني .. لو سمحت سيبوني أكلمها "
لم يعد هناك صوت سوى صوت حركة المترو .. نظر الجميع لي وللفتاة
ونظرت هي .. ولأول مرة .. لا أستطيع أن أصف ما حدث لي وقتها من الداخل
 كانت مرتبكة وخائفة .. نظرت لها وحاولت أن ارسم على وجهي ملامح مطمئنة قدر الإمكان وقلت :
" ممكن تنزلي معايا المحطة الجاية .. هما كلمتين مش أكتر والله "
لم ترد علي ولكن عندما جائت المحطة نزلت منها .. ونزلت أنا مسرعاً والنساء تنظر لي ولها بملامح مختلفة من الدهشة والتعجب والسخرية .. وجدتها جالسة دكة المحطة ..جلست بجوارها وأخذت لحظات قبل أن أجد الكلام المناسب الذي أريد قوله

(تمت)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق