الأحد، 23 أكتوبر 2011

ربع قرن من العزلة


انا الآن على وشك الدخول في عامي الخامس و العشرين.. شعور سيء ان يشعر الانسان ان عمره يتقدم.. الأمر لا يكون كذلك في البداية .. الطفل يود دوماً أن يكبر.. يود أن يثبت للناس أنه كبير.. يقلد الكبار في كلامهم وحركاتهم.. سواء كان سلبي ام ايجابي

الأطفال يغيظون بعضهم البعض بعمر كل منهم.. في شلة الأطفال ..الأكبر يتفاخر بأنه كبير.. و أصغرهم يشعر أنه تافه حقير.. دوما كل سلوك سيء يعايرون صاحبه بأنه " عيل صغير"..بالذات حين يبكي.. و حين يرفض تدخين السجائر.. أحد أهم اسباب التدخين دوما يكون تقليد الكبار .. أو استفزاز أحد الاشخاص بأنه طفل و لا يمكنه شرب السجائر

كل هذا يكون حتى مرحلة معينة .. بعدها لا يعتبر الانسان أن التقدم في العمر ميزة .. بل و يظل يفتخر دوما بصغر سنة و يظل يحاول كل يوم ان يقنع نفسه انه ليس كبيراً و أنه لازال صغير و المستقبل امامه!!

متى هي تلك المرحلة؟!! ليس لها سن محدد .. و لكن تُقاس بالنضج.. حين يدرك الانسان أن التقدم في العمر ليس به أي ميزة.. و أنه يقرب الانسان خطوة من الموت .. و علاوة على هذا فهو بمثابة ضياع اشياء كثيرة .. فما يصلح لك في عمر العاشرة لا يصلح لك في عمر الخامسة عشر.. و ما يصلح في العشرين لا يصلح في الثلاثين و ما يصلح في الاربعين لا يصلح في الخمسين.. و هكذا

كل عام يبعدك عن اشياء كثيرة .. و أنت شاب يكون كل شئ أمامك متاح.. كما نقول في كلامنا الدارج" الدنيا فاتحة لك دراعها"

الصحة و الحيوية و صفاء الذهن و الحرية و القدرة الابداعية و الأهم من ذلك .. الاهتمام بالمستقبل.. كما يقول محمد فؤاد:" ساعات بأشتاق لإحساسي ان بكرة بعيد".. إن هذا الاحساس لا يشعر به الا شخص لا يشعر ان بكرة بعيد.. بل هو يعيش هذا الـ" بكرة" .. فمن يعيش بعد الستين مثلاً لا يرى امامه أي غد ..القطار يكاد يصل لمحطته الاخيرة .. فقط هو يدرك هذا و لكنه لا يعرف تحديداً متى يصل القطار لآخر محطة .. و لكنها على كل الاحوال قد اقتربت.. الوقت لا يكفي لفعل اي شئ قبل الوصل للمحطة الأخيرة.. و إن كفى فهو يكفي لأشياء بسيطة قليلة

و في الحقيقة ليست المشكلة في ان يزيد المرء في العمر.. و من يعتبرها مشكلة فهو إنسان ساذج مع احترامي له .. إن المشكلة ليست في التقدم في السن في حد ذاتها فهو أمر لا محالة سيحدث.. و لكن المشكلة الحقيقية هي ألا يعيش الانسان كل مراحل عمره كما ينبغي ان يعيشها .. يمرح و يتعلم جيداً في طفولته ومراهقته .. و يعمل و يجتهد و يبدع ويحقق اشباعه النفسي و العاطفي في شبابه و يسقر في كهولته و يرتاح في شيخوخته ..

إن أي تخبط في تلك التوقيتات يؤدي بالضرورة إلى هذا الشعور بالحزن على العمر الذي راح.. فقد لا يتعلم الانسان في طفولته.. ثم عندما يكبر يتحسر على العمر الذي راح بدون تعلم .. حيث ان التعلم في الكبر اصبح اصعب و مليء بالمشاكل و التحديات عكس التعليم في الطفولة

و ايضا قد لا يلعب في طفولته و لا يحظى بالرفاهية و المرح.. فحين يكبر و ينخرط في الحياة العملية يشعر بالندم على العمر الذي كان كله شقاء و لم تعد هناك فرصة للرخاء في الدنيا

و قد لا يستطيع الانسان مثلا ان يرتبط عاطفيا او يتزوج إلا في سن متقدم للغاية .. و حينها ايضا قد يشعر بالندم على اشياء كثيرة

إن الحل الحقيقي لعدم الشعور بأن سنوات العمر تضيع هدراً هو ألا يؤخر الانسان منا أي مرحلة من مراحل العمر لما بعد أوانها .. حينها فقط سيشعر الانسان ان لكل عمر مميزات و سيتعامل مع تقدمه في السن بشئ من الرضا النفسي

أما عني أنا ... فما شاء الله .. ربع قرن كامل عشته على هذا الكوكب البائس على بقعة من أكثر بقاع الكوكب بؤساً..

لا أظن أني حققت هذا التوزيع للعمر حتى الآن .. و إن كانت امامي الفرصة .. إلا أنني لسبب ما أشعر أنها تتطاير ..

كل ما أتمناه لنفسي في تلك المرحلة العمرية هي أن احقق في شبابي ما يجب على الانسان ان يحققه في شبابه .. حتى ولو كان الحد الادنى من المطلوب تحقيقه .. فأنا أرى نفسي لا أكاد أخطو حتى ربع خطوة تجاه الحد الأدنى .. و أخشى ان يضيع العمر..

و على غرار اللمبي .. فأنا أنصح كل شاب و كل فتاة أن يستغل كل مرحلة كما يجب أن تُستغل.. حتى لا ينظر لروحة فجأة في المرآة و يجد نفسه كبر فجأة فيتعب من المفاجأة!

الأربعاء، 12 أكتوبر 2011

هل الجيش حمى الثورة المصرية؟!

( التحرير - مصر - ثورة 25 يناير- طنطاوي)

إذا كنت تظن ان الجيش المصري حمى ثورة 25 يناير.. فأرجوك شاهد هذا الفيديو.. و إذا كنت من انصار نظرية عمرو مصطفى ( نظرية الفوتوشوب ) فلا تشاهد اي شئ لأن كل ده فوتوشوب يا باشا

أتركك مع الفيديو


مسئولية مجلس القلل.. و أفكار من العهد البائد



-1-

منذ بدأت الثورة لم أحزن بشدة إلا في أيام معدودة .. باقي الايام كانت مشاعري تتفاوت.. إلا أن أكثر الايام التي كانت تُدمي قلبي هي أيام 28 و29 يناير و يوم موقعة الجمل و يوم 9 اكتوبر حيث موقعة ماسبيرو..

مثلي مثل اي شخص عنده شئ من الآدمية أشعر بالحزن و القهر على ضحايا هذا اليوم .. و مثلي مثل اي شخص يزن الامور بعقله و لا ينجرف وراء عصبيات خرقاء أو سلبية مذلة أدرك تماماً من هو المتسبب في تلك الاحداث.. ولكن هذه المرة الأمور اختلفت كثيراً عن البداية

أتذكر بدايات ثورة يناير... كان كل شئ واضح أمام الجميع .. نظام مبارك نظام فاسد ظالم يجب ان يسقط.. الشعب غاضب و خرج ليعبر عن غضبه اسوة بما حدث في تونس.. إذن هناك طرفان .. شعب غاضب ثائر و نظام قمعي فاسد وحشي.. الشعب خرج يطالب بحقه و النظام القمعي حاول قمعه.. مات من مات و أصيب من اصيب و نجا من نجا.. محاولات لاجهاض الثورة .. انفلات امني مدبر و اعلام مضلل و شائعات و .. و .. ، و في النهاية تم الخلاص من رؤوس هذا النظام و إن اختلفت تفسيرات النهاية ..

إلى هنا و الحكاية واضحة تقريباً .. ثم بعد ذلك دخلت عناصر كثيرة على القصة .. و تفسيرات كثيرة جعلت من كل شئ يحدث في مصر له أكثر من مليون تفسير.. كل شئ قابل لأن يكون في مصلحة الثورة و ضدها في نفس الوقت .. الأعداء أنفسهم أصبحوا كثر..

كل مشكلة تحدث يتم إدانة أكثر من طرف.. الجيش و الشرطة و الفلول و الأيادي الخارجية و المنقسمة لعدة اقسام .. منها اياد خليجية و أياد امريكية اسرائيلية و أخرى ايرانية شيعية و أخرى حماسية ..مصطلحات كثيرة اصبحت تُذكر يوميا على السنة الاعلاميين و العامة لم تكن بمثل هذا المعدل من التداول من قبل.. الوهابية السلفية و العلمانية و الليبرالية و الاخوانية .... الخ

كل شخص يدين طرف من تلك الاطراف حسب مستواه الثقافي و أيدلوجيته و حسب أغراضه و نواياه...

و بالطبع المستفيد الأكثر من وراء كل هذا هو الفاعل الحقيقي للمشكلة .. فهو ينجو بفعلته تلك وسط كل هذا الزحام من المتهمين ..

لكن في النهاية .. و مهما رحنا و مهما جينا.. يجب أن نعي حقيقة هامة و ألا نغفلها و سط زحام الرغي و الثرثرة حول سبب كل مصيبة تحدث هذه الأيام ...

الحقيقة هي أنه سيظل المسئول الأول عن كل شئ يحدث في تلك البلد هو رئيس السلطة و الحاكم الحقيقي لها .. ألا و هو المجلس الأعلى للقوات المسلحة و الذي نطلق عليه لقب" المجلس العسكري" أو " مجلس القلل"

فلو فرضنا فرضاً جدلياُ أن مجلس القلل – المجلس العسكري- هو مجموعة من الملائكة تحكمنا .. لا يرتكبون اي خطأ تجاه اي شخص.. فهم أيضاً مسئولون تماماً عن كل ما يحدث

فمثلا لو كان ما يحدث - أيا كان- بسبب أياد خارجية .. فلماذا لم يقطعوها ؟!! ..

ولو كان المتسبب فيما يحدث – أيا كان- هو الفلول فلماذا لا يتم ملاحقتهم فلاً فلاً.. و هم معروفين للجميع بالأسم ؟!

و إن كانت الشرطة هي المتسببة فيما يحدث.. فأنت رسميا رئيس فوق وزير الداخلية نفسه .. تستطيع ان تفعل ما تشاء و تحاسب من تشاء و تهيكل الداخلية كما تشاء

و إن كان السبب الحقيقي هو الإعلام المضلل ... فلماذا لا تقدم لنا أنت إعلامك الغير مضلل و أنت تملك جهازاً إعلامياً ضخماً

و ما حجتك و أنت تملك قانون طوارئ يتيح لك فعل اي شئ في أي وقت بدون أي حساب.. و أنت تملك اجهزة استخبارات تستطيع ان تعرف بها ما تريد الا انك تسخرها لتعرف فقط من يعارضك !

و الأهم من كل هذا .. إن كنت لا تقدر على إدارة الدولة .. فلماذا لا تترك إدارتها لمن يقدر عليها..

و تلك النقطة الأخيرة بالذات في غاية الأهمية .. فإن حجة تمسك مجلس القلل – المجلس العسكري- بالسلطة تذكرني تماماً بحجة المخلوع.. الفوضى .. تلك الكلمة السحرية التي يتم إخافة البسطاء منها .. تلك الكلمة التي من الممكن أن تتيح له حكم مصر عشرات السنوات – في حال غفلة الشعب -

كما أنهم يرددون نفس كلمات المخلوع :" الحمل تقيل و المسئولية جسيمة و تهد الحيل" ...

و أنا في الحقيقة لا أدرك كيف يكون الحمل ثقيل .. و أنا أراك تتباطئ في تخفيف العمل من على كاهلك.. بل بالعكس أنت تزيد من الفترة التي ستحكم فيها البلاد .. و المصيبة الاكبر انك لا توزع المسئوليات على الوزراء.. فتقريبا انت عينت سكرتارية و ليس رجال مسئولون.. و كل القرارات الهامة في يدك أنت وحدك

إن مجلس القلل – المجلس العسكري- بكل قياداته هم دوما و أبداً المسئولون عن كل شئ يحدث في تلك البلاد.. أيا كان التفسير و أيا كانت قصة ما حدث .. سواء المتظاهرون كان معهم مدافع ثقيلة او كانوا يحملون وروداً.. في كل الاحوال هو المخطئ.. طالما هناك ضحايا بهذا الشكل .. و ليس هذا من باب الاستسهال بل من باب الواقع .. كفانا غرقاً في تلك النظريات الضبابية التي تحمل دوماً المواطن مشكلة كل شئ في الدنيا.. و هي نفس تلك النظريات التي أخرت الثورة الشعبية لسنوات و سنوات و خدرت عقل الشعب ..

-2-

لا يمكن أبداً أن نظل ننظر بنفس العقلية المتخلفة التي انتهى تاريخ صلاحيتها يوم 11 فبراير 2011 لأحداث اليوم ... لا يمكن ابداً أن نعيد نفس الكلمات الغبية ..و التي من ضمنها جملة " و هنجيب مين غيره يمسك"

أتحدث بالطبع عن اقالة عصام شرف و حكومته .. و بصرف النظر عن أن تتم اقالتهم من عدمها .. إلا أن كل ما يغضبني هو أن البعض للأسف لا زال ينظر تلك النظرة للحاكم .. حتى حين يراه سيء و يدير الامور بشكل كارثي.. يصبر عليه .. و الحجة الأهم انه لا يوجد بديل

كيف يمكن لدولة عدد سكانها 90 مليون نسمة لا يوجد فيهم شخص يصلح لأن يتولى الحكم خلفاً لشخص آخر

كلنا نتذكر قبل الثورة كيف كان البعض يقول أن مبارك ليس له بديل حقيقي .. حتى ان البعض تطرف في سلبيته و قال ان جمال مبارك لا بأس به طالما أنه لا يوجد بديل و أن الواد شرب الصنعة من ابوه!!!

و بعد الثورة كلن رأينا بأعيننا كم الاشخاص المؤهلين لأن يتولوا رئاسة الجمهورية .. بصرف النظر عن رؤيتك في أنهم يصلحون أم لا .. إلا أن كل طرف منهم أصبح له مؤيدين و محبين و متحمسين .. و نسينا تماماً فكرة أنه لا بديل..

تأكد دوماً أن هناك البديل .. إن كان الأمر بالنسبة للبشر فالبدلاء على قفا من يشيل.. و برغم اسقالة اي حكومة في أي ظروف بالطبع سوف تخلق حالة من الارتباك .. إلا أن السكوت على الأوضاع المتدهورة في ظل حكم حكومة ما سيخلق حالة من الفشل و التدهور لا نعلم وقتها متى و كيف ستنتهي.. فأيهما أفضل من وجهة نظرك.. حالة الارتباك .. أم حالة الفشل و التدهور؟!

الأحد، 3 يوليو 2011

الثورة و الحاكم العادل.. و الحلول السحرية


الحل السحري .. هو أمل الغالبية .. قبل الثورة و بعدها ..و إن اختلفت الوسائل لتحقيق غاية الرخاء.. إلا أن الوسيلة المنتظر استخدامها واحدة ..

فقبل الثورة كنا ننتظر حاكماً عادلاً على غرار عمر بن الخطاب.. و المهدي المنتظر

يأتي فجأة .. فيعم الرخاء.. يعطي كل ذي حق حقه.. ينصر الضعيف و يوزع بالعدل على الناس ما يجعلهم يعيشون في أمان و رفاهية ..

و بفضل هذا المنتظر سوف نتطور اقتصادياً و عسكرياً و علمياً .. و حتى أخلاقياً..

و هو ايضا من سيجعلنا نحب العمل و نجتهد .. باختصار هو من سيجعلنا نفعل كل شئ رائع .. و هو من سيزيل كل شئ فاسد

و المشكلة الحقيقية هي أننا وقفنا لسنوات ننتظر هذا البطل.. وفي كل مرة يجئ شخص نظنه هو بطلنا الجديد.. ثم بعد فترة يتضح لنا أنه لا بطل و لا اي حاجة .. و أنه مثله مثل الباقين..

فلما يئسنا من حكامنا أن يكونوا أبطال.. بدأنا نتوسم فيهم أن يتحسنوا .. و ندعوا لهم بالتقوى و الصلاح.. و نلتمس لهم الاعذار.. فتارة نعلل المشاكل بفساد من حوله .. و تارة نعللها بأن الرجل ليس خارقاًو أن الأعباء حقاً كثيرة... و في كل مرة نختلق أعذاراً للحاكم .. حتى نفدت الحجج منا .. و أصبح لا مجال للشك في أن هذا الحاكم حاكم فاسد ..فماذا فعلنا؟

بدأنا نبحث عن اسباب أخرى لما نحن فيه ... و تصورنا – او تصورت فئة منا- ان المشكلة ليست في الحاكم .. و ان المشكلة الحقيقية تكمن فينا نحن .. و غذى هذا التصور بعض دعاة الدين الذين دعمهم الحاكم ليأكدوا لدى الناس هذه المعلومة ..

و مع تأكيد بعض الدعاة لهذه المعلومة أصبح ذلك التفسير لتدهور البلاد و ضياع حقوق العباد هو التفسير الرسمي.. و أصبح الناس بدلاً من أن ينظروا للسبب الحقيقي وراء ما حل عليهم من خراب، أصبحوا يحتقرون انفسهم و يجلدون ذاتهم كلما وجدوا أي مظهر من مظاهر الفساد...

حتى جاءت الثورة ...لا يهم كيف جائت و متى جائت و من السبب فيها .. و لكن المؤكد أنه لا شك أن من أشعل فتيلها هو كل من كان يفكر عكس التصور السابق ذكره..

من بدأ بالثورة هو من آمن بشيئين.. أولهما أن المسبب الرئيسي لما نحن فيه هو من يجلس على القمة.. أي الحاكم..

و ثانيهما أن الناس هم بالفعل سبب الفساد.. و لكن ليس لسوء اخلاقهم في المعاملات اليومية كما صور لنا بعض الدعاة المضللين .. و لكن لعدم ثورتهم على الحاكم الظالم الذي نفدت كل الحيل القانونية و الطبيعية في اصلاحه.. و أصبح لا أمل من اصلاحه الا بالإطاحة به ..

و ألتف الكثيرون حول دعوة الثورة .. لا أقول كل الشعب.. و لكن فئة كبيرة منه آمنت بالثورة و أحبتها .. و رأت فيها المخرج مما هم فيه من مشاكل... و حلت الثورة محل الحاكم العادل المنتظر قدومه.. أخذت مكانه كحل سحري لكل شئ يعانون منه ..

ثم.....

لا شئ..

بعد النشوة الاولى ابتهاجاً بسقوط رأس النظام ... أكتشف البعض حقيقة مهمة .. ألا و هي أنه لا رخاء بعد الثورة .. لا جديد بعد الثورة .. مازالت الأحوال كما هي .. إن لم تسوء أكثر عند البعض..

فجأة انتهت الفرحة .. و حل محلها الملل و القرف... من ماذا؟ من أي شئ و كل شئ..

حالة غريبة من الفتور أصابت الكثيرين من بعد الثورة .. فجأة أكتشف الجميع أن الثورة ليست حلاً سحرياً.. و أكتشفوا خطأ مقولة :" مصر قبل 25 يناير غير مصر بعد 25 يناير"...

لأنهم وجدوا كل شئ قبل 25 يناير هو نفس الشئ بعد ذات التاريخ

.. حرية .. كرامة .. كلمات لا تعني الكثير لدى البعض... فهو قبل الثورة لم يكن يعاني من مشكلة حرية .. فلم يكن له اي نشاط سياسي و لا أي رأي في اي قضية ...

البعض لم تكن تنقصه حرية .. فهو يرى نفسه حر.. و لم تكن تنقصه كرامة .. فقد كان لا يشعر بأي شئ يطعن كرامته ...

فقط كان ينقصه أن يعيش في رخاء ...و حين لم يتحقق هذا الرخاء بعد الثورة مباشرةً بدأ يشعر بأن المشكلة ليست في النظام الذي سقط.. و أن الثورة ليست لها أي أهمية

الثورة لم تكن حلاً سحرياً أبداً... و لا حتى الحاكم العادل..و لا حتى أي شئ في الدنيا

متى يؤمن هذا الذي ينتظر حلاً سحرياً أنه لا توجد حلول سحرية..

إن الإنسان منا .. تقريبا كل شخص.. يدرك جيداً أن كل شئ في هذه الدنيا لا يأتي بسهولة .. تجده يذاكر لينجح .. و يتعب ليحصد المال.. و يشقى ليؤسس بيتاً و أسرة .. كل هذا على مستوى حياته الشخصية

أما بالنسبة للبلد .. فهو يرى أنها يجب أن تتطور بلمح البصر.. ولا تنطبق عليها القواعد الطبيعية للنجاح..

و ليس هذا فقط.. المشكلة الأكبر أنه لا يدرك أن الشخص المفترض به أن ينهض بالبلد هو شخصه.. هو بعينه ....

الفكرة هي أنه ينتظر .. و لا يفهم أنه هو الذي من المفترض أن ينتظر الناس منه النتائج

وكل هذا بسبب عدم ربطه بين مصلحته الشخصية و مصلحة الوطن الذي يعيش فيه.. و لا يدرك أن المصلحتان واحدة .. و كلاهما مرتبط بالآخر

************

************

و لا أعتقد أن تلك النظرة سوف تتغير سريعاً.. و لا أعتقد أن هذه الفئة التي تنتظر حلولاً سحرية سوف تؤمن بأنه لا حلول سحرية .. ستظل تنتظر.. و تسب و تلعن .. إلى أن تموت .. أو يعم الرخاء.. أيهما اقرب

ملحوظة: المقال ليس عن الشعب المصري.. و لكن عن فئات معينة

السبت، 21 مايو 2011

العشرين جنيه بتاعتي


كان المسجد خاوياً بعد الفراغ من صلاة الجمعة إلا من قلة متفرقة في أنحاء المسجد.. منهم من يصلي و منهم من يمسك مصحفاً يقرأ فيه ... بينما كان إمام المسجد .. ..جالس بجوار المنبر ترى شفتاه تتحرك بدون صوت.. و عيناه تدور في جنبات المسجد دون هدف حقيقي ...

و في منتصف ساحة المسجد تقريباً يجلس شاب يبدو في منتصف العقد الثاني من عمره .. يجلس حائراً و على وجهه علامات التوتر.. لا يفعل شيئاً محدد... و لكنك تراه من حين لآخر ينظر للإمام بترقب..

فجأة قام هذا الشاب من مكانه و أتجه نحو الشيخ .. وجلس بجواره على الأرض و قال:

- السلام عليكم يا شيخ

- و عليكم السلام يابني !

- فيه مشكلة حصلت النهاردة في المسجد و مفيش حد هيحلها غيرك يا شيخ.

- خير؟!

- الموضوع يا شيخ أني اليوم قررت أن أتبرع بمبلغ مالي في صندوق المسجد.. و كان معي 21 جنيه .. ورقة بجنيه .. وأخرى بعشرين جنيه

- بارك الله فيك يا ولدي.. و ليه قلت لي .. دي صدقة و لازم تفضل في السر

- ياشيخ مش دي المشكلة .. المشكلة إني كنت قد نويت ان أضع جنيه في الصندوق.. إلا أنني وضعت بالغلط العشرين جنيهاً..

- مش فاهم .. وضح لي أكتر

- في الحقيقة كنت على باب المسجد بألبس الشبشب .. و كنت أنوي بعد ارتداء الشبشب أن أخرج الجنيه من جيب قميصي و أحطه في الصندوق.. إلا إني لمحت أمام المسجد واحد صاحبي كنت أريده في أمر هام.. فأخرجت الورقة أم عشرين جنيه بالغلط بسرعة من جيبي ووضعتها في الصندوق من غير ما أبص... و ما عرفتش إني حطيت الورقة الغلط غير لما طلعت الفلوس عشان أشتري حاجة

ابتسم الشيخ للشاب بهدوء و قال:

- و هي دي مشكلة ؟!.. حصل خير يا بني... سيضاعف الله لك باذن الله الأجر عشرين ضعفاً عن الأجر الذي كنت ستأخذه لو وضعت الجنيه...

بدا على وجه الشاب علامات الارتباك و الخجل حين رد على الشيخ قائلاً:

- و الله يا شيخ الحقيقة أن هي دي المشكلة .. أنا جاي لحضرتك عشان أسترد الـ 20 جنيه بتوعي..

نظر الشيخ له بدهشة و قال:

- ليه كده يابني.. حد يرجع عن صدقة دفعها لوجه الله ؟

- في الحقيقة يا شيخ أنا في ضائقة مالية.. انا تقريبا مفلس و فضيلتك تعرف أننا في آخر الشهر.. و تقريبا العشرين جنيه هي اللي معايا لآخر الشهر.. يا دوب هأصرف منها الاسبوع ده لحد ما أقبض اول الاسبوع اللي جاي ان شاء الله

- ماجاوبتش عن سؤالي.. إزاي يطاوعك قلبك تاخد فلوس طلعتها لله ..

- ما انا قلت لك يا شيخ .. ضائق مالية .. ثم أنا يا شيخ كنت ناوي أطلع جنيه مش عشرين .. فأنا عاوز أصحح النية

- لا تعرف تصحيح النية على مزاجك .. تصحيح النية معناه مراجعة الانسان لنواياه تجاه الأفعال التي يقوم بها في الدنيا .. و جعل النية دائماً لله .. اللي انت بتعمله دلوقتي ده رجوع عن الخير مش تصحيح للنية .. و إن كنت يا بني عاوز تصحح نيتك بجد .. يبقى تنوي انك تخرج العشرين جنيه كلها لله .. هو ده تصحيح النية مش تاخد الفلوس تاني

- طيب و أنا أعمل ايه دلوقتي؟.. أعيش باقي الشهر منين؟

- أنت متجوز؟

- لأ.. لسة والله يا شيخ .. الحالة تعبانة زي ما أنت عارف ..

- وعايش فين.. لوحدك و لا مع أهلك..

- و عايش مع أهلي ... هو أنا أقدر اعيش لوحدي؟ ده انا اموت من الجوع

- يعني عايش مع أهلك و معندكش مسئولية ... طيب ما تستلف من أبوك لحد آخر الشهر يابني و سيب العشرين جنيه لوجه الله .. و ربنا يكرمك ان شاء الله بنيتك الصالحة

- و نعم بالله .. بس ياشيخ العشرين جنيه اللي أنت بتتكلم عنها دي أنا أصلا سالفها من أبويا لحد آخر الشهر .. يادوب مصاريف مواصلات للشغل لحد آخر الأسبوع ده .. و بصراحة كده أنا بأشعر بالعار لما بأستلف من أبويا فلوس.. أبويا موظف محدود الدخل .. مرتبه يا دوب بيكفي البيت و اخواتي.. و انا بدل ما أخفف عنه و أساعده .. بأزود عليه العبء.. فعشان كده بصراحة مش هأقدر أروح أقوله هات فلوس تاني

- لا .. روح انت بس و قوله .. قوله انك حطيتها في الجامع .. و انا واثق إنه هيفرح بيك و هيديك فلوس تاني.. أصل الأبـ..

قاطعه الشاب بحدة - على غير المعتاد منذ بداية الحوار- قائلا:

- ياشيخ انت ليه مش راضي تفهمني.. بأقولك ابويا راجل على قد حاله .. و لسة واخد منه فلوس.. ثم أنا مش شايف انه حرام اني آخد الفلوس تاني.. دي فلوسي و أنا حر فيها ..ثم أنا أصلا غلبان و تجوز عليا الصدقة .. يعني المفروض آخد فوق العشرين جنيه دي عشرين تانية من صندوق المسجد كصدقة

ألتفتت القلة الموجودة بالمسجد لهما في فضول محاولة أن تعرف سر هذا الصوت المرتفع نسبياً

قال له الشيخ بغضب – و إن كانت نبره صوته هادئة- :

- تأدب يا ولد و أنت بتتكلم معايا .. أنت هنا في المسجد و بتكلم عالم

- آسف .. بس أنا نفسي تحس بيا يا شيخنا.. و تديني العشرين جنيه .. حتى على سبيل الصدقة

- آسف.. ما أقدرش

- متقدرش ليه .. هي الفلوس اتصرفت و لا إيه ؟

- لا .. ما أقدرش لأن إيه اللي يضمني إنك فعلا دفعت العشرين جنيه فعلا في الصندوق.. لازم تجيب لي ضمان

- انت بتكدبني و لا إيه يا شيخ ؟

- يابني المؤمن كيس فطن.. انا لا أكذبك و في نفس الوقت لا أصدقك بشكل أعمى .. لازم دليل قوي

نظر الشاب له بذهول بصوت مرتفع نسبيا:

- يعني إيه .. فلوسي راحت عليا؟؟

و بينما الشاب يتكلم توجه نحوهما رجل مسن من المتابعين للحوار في صمت و قال في نبرة فضول:

- خير يابني ايه المشكلة .. ايه يا مولانا الحكاية؟

هم الشاب بالكلام .. إلا أن الشيخ فوت عليه الفرصة و بادر هو بالحكي قائلاً:

- المشكلة يا سيدي إن الشاب ده كان عاوز يطلع جنيه صدقة لله .. قام غلط و حط عشرين جنيه بدل الجنيه .. و قال إيه عاوز ياخد فلوسه تاني

قال العجوز بلهجة استنكار مبالغ فيها :

- ايه ده .. أعوذ بالله .. الدنيا مبقاش فيها خير

قال الشاب بصوت عال غاضب :

- اعوذ بالله ايه يا عم الحاج؟.. هو أنا شيطان... يا حاج أنا مش معايا غير العشرين جنيه دي لآخر الشهر .. و أنا شرحت كل حاجة للشيخ .. شرحت له ان ظروفي صعبة و محتاج العشرين جنيه دي ضروري..

نظر العجوز للشيخ قائلاً:

- و ايه رأي مولانا في الموضوع ده

رد الشيخ قائلا:

- و الله أنا قلت له هات لي دليل انك دفعت عشرين جنيه ... يعني يرضيك يا سيدي الفاضل إن أي حد يجينا من بره يقول انا حاطط مبلغ معين من المال نروح نعطيه من غير ما نتأكد؟

- لا طبعا ازاي .. ايه دليلك يا واد انت على انك حطيت عشرين جنيه ..

- الشاب: و انا اجيب دليل منين .. أقولكم حاجة ؟.. هاتوا عامل المسجد يمكن يفتكر شكلي

قال الشيخ بنفاد صبر:

- حاضر يا سيدي هنادي لك عليه ..

و توجه بصوته ناحية حجرة الإمام حيث يجلس عرفة قائلا:" يا عرفة .. يا عرفة .. تعالى عاوزك"

يأتي عرفة للجمع و يخاطب الشيخ واقفا:

- خير يا مولانا ...

- انت فاكر الولد ده .. شفته النهاردة بيحط فلوس في الصندوق؟

يقول له الشاب مستعطفاً:

- ركز و النبي يا عرفة .. ركز أبوس إيدك .. و حياة ابوك يا شيخ.. فاكرنـ..

يقاطعه الشيخ غاضباً:

- اعوذ بالله .. ايه الشرك اللي انت بتقوله ده ... و النبي ؟.. و حياة ابوك ؟.. قول لا اله الا الله يا ولد

- لا اله الا الله .. استغفر الله العظيم .. بالله عليك يا عم عرفة ركز.. فاكرني؟؟؟

ينظر له عرفة بضجر و يقول :

- يا عم افتكر مين صلي على النبي... انا مخي مش دفتر .. طبعا مش فاكرك..

- يعني ايه .. خلاص كده .. مفيش عشرين جنيه ...و أنا اعمل ايه طيب؟؟

يقول العجوز بلهجة سخط:

- ايه يابني اللي انت فيه ده ... انت للدرجة دي بتحب الفلوس... ده جيل ما يعلم بيه الا ربنا ..

و يتبعه الشيخ قائلا:

- خلاص يابني روح لحال سبيلك .. مقدرش اديك اي حاجة ... ولو كنت فعلا دفعت عشرين جنيه يبقى صحح نيتك و ادعي ربنا يتقبلها منك بدل ما تروح عليك دنيا و آخرة

يقوم الشيخ من جلسته و يتجه لحجرته قائلا: " سلام عليكم "

يدخل الحجرة و يتبعه عرفة و ينصرف العجوز للركن الذي كان جالساً فيه يقرأ القرآن..

يجلس الشاب وحيداً بجوار المنبر و على وجهه علامات الحيرة و السخط....

بعد دقيقتين يجد الشيخ خارجاً من حجرته متجهاً صوب باب المسجد .. و قبل أن يخرج من الباب يتجه ناحيته مسرعاً و هو ينادي:

- يا شيخ .. طلب أخير بس

- طلب ايه بس .. مش قلنا خلاص الموضوع ده ..

- بس حلمك عليا .. يا شيخ أنا طالب صدقة .. طالب عشرين جنيه صدقة من اموال المسجد ... مش أنا فقير غلبان و تجوز عليا الصدقة ؟

- الصدقات للمساكين اللي لا حول لهم و لا قوة .. و أنت عندك أبوك يصرف عليك.. حتى لو كان على قد حاله .. انما على الاقل انت ضامن لقمتك و بيتك .. فيه أرامل و يتامى محتاجين الفلوس و حالتهم أغلب من الغلب.. حس بقى بالنعمة اللي انت فيها و أشكر ربنا ..

- بس يا شيخ..

- مفيش بس... و أرجوك لا تعطلني ..

يخرج الشيخ من باب المسجد ... و يعود الشاب ليأخذ شبشبه من داخل المسجد حيث وضعه وينصرف .. و قبل أن ينصرف يلمح أمامه صندوق الصدقة ... ينظر يميناً و يساراً حوله .. ثم ينظر للصندوق طويلاً قبل أن يخرج من جيبه الورقة فئة الجنيه.. يطبقها و يضعها في الصندوق و هو يقول:" حسبي الله و نعم الوكيل"

( تمت)

السبت، 14 مايو 2011

ظاهرة التضخم .. الأسباب و النتائج


( كتبت هذا المقال في26/3/2010)

الصورة البديهية في ذهن الكثيرين عن التضخم هو أنه عبارة عن انخفاض حاد في قيمة العملة .. فتصبح السلع اسعارها جنونية و غير واقعية .. و تخرج علينا عملات فئة ألف و ربما مليون ( كما حدث لليرة التركية القديمة) ..
و على الرغم من أن كل تلك المظاهر حقيقية .. إلا أن الأمر أخطر من تلك الصورة التي يتندر بها البعض في مجالسهم.. فيقول فلان أن الموظف في دولة كذا بليونير .. و أن الطفل هناك يأخذ مصروف بالآلاف.. و إلى آخر تلك الدعابات..
التضخم مشكلة إقتصادية خطيرة.. إن لم تكن الأخطر و الأكثر تأثيرا في الكثير من النواحي.. و قبل أن أوضح خطورة التضخم أود أن أوضح تعريفه و أسبابه حتى يستطيع القارئ أن يكون في الصورة..

التضخم ببساطة هو الأرتفاع المستمر و المتتالي و الشامل في أسعار السلع و الخدمات في المجتمع.. هذا التعريف يخبرنا بشروط التضخم.. فلكي نقول أن في مكان ما تضخم.. يجب أن تكون الاسعار مرتفعة .. و بأستمرار و شاملة غالبية السلع و الخدمات..
فلو فرضنا مثلا أن دولة ما حدث فيها ارتفاع في سعر نوع معين من السلع دون الأنواع الأخرى .. فذلك ليس تضخماً بالمرة .. و كذلك الحال إن حدث ارتفاع شامل في الأسعار.. و لكن لفترة زمنية قصيرة ثم استقرت الاسعار .. هذا أيضا ليس تضخماً..
فلو أردنا أن نقول أن هناك تضخم حدث يجب أن يكون بالشروط السالف ذكرها ..
و لكن .. ما هو السر الحقيقي الذي يجعل الأسعار ترتفع.. و بأستمرار.. و بشكل شامل؟!
أسباب المشكلة التضخمية كثيرة .. و يمكن سردها في صورة نقاط.. إلا أنني أرى أنه من الأفضل توضيح آراء علمية لبعض المدارس الاقتصادية..ففي الواقع إن أي ظاهرة أو مشكلة اقتصادية غالبا ما سيكون لها أكثر من تفسير... و كل مدرسة فكرية اقتصادية ستفسر الظاهرة حسب معطياتها الفكرية المكتسبة من بيئتها السياسية و فترتها الزمنية ..
فهناك مثلا مدرسة اقتصادية شهيرة تسمى المدرسة الكلاسيكية كانت فترتها منذ نهايات القرن الثامن عشر حتى بدايات القرن العشرين .. و هي مدرسة اقتصادية شهيرة و من روادها " آدم سميث" العالم الاقتصادي الشهير.. تلك المدرسة مثلا ترجع سبب التضخم باختصار إلى زيادة عرض النقود في السوق.. فهم يرون ان كمية النقود تتناسب طردياً مع المستوى العام للأسعار.. فكلما زادت الكمية كلما زادت الأسعار..
إلا انها في الواقع صورة بدائية و غير عميقة.. و هو ما ستتأكد منه حين تعرف آراء العالم الاقتصادي كينز (1883-1946) ..
فسر كينز ظاهرة التضخم بصورة أكثر دقة من الكلاسيك.. فباختصار هو يرى أن زيادة كمية النقود في السوق ليست هي السبب الرئيسي في حدوث أرتفاع في الاسعار و بالتالي حدوث التضخم لاحقاً... بل بأرتفاع الطلب على السلع و الخدمات بأكثر من المعروض منها هو السبب الحقيقي .. و برهن على ذلك بأختصاركما يلي:
- لو فرضنا أن كمية النقود المتداولة في السوق زادت بمقدار معين... هذا لن يؤدي مباشرة إلى ارتفاع الاسعار.. فالمنتج سيقوم بمحاولة لزيادة الانتاج من خلال زيادة العمالة لديه و العمل لساعات أطول و هكذا..
- عند مرحلة معينة لن يستطيع المنتج أن يلاحق الطلب من جانب المستهلكين على سلعته.. هذا لأنه قد وصل لحالة التوظف الكامل.. حيث أستخدم كل الموارد المتاحة لديه للانتاج.. و لن يستطيع أن ينتج فعلياً بأكثر مما أنتج.. و بالمثل باقي المنتجين.. و هو ما سيؤدي لأن يكون المعروض في السوق من سلع و خدمات غير كاف .. و من ثم يرتفع المستوى العام للأسعار بشكل متتالي و شامل.. ثم يحدث التضخم
بالطبع هناك العديد من النظريات التي تفسر الظاهرة التضخمية .. و لكن من وجهة نظري المتواضعة تعتبر النظرية الكنزية الأكثر واقعية..



التضخم المكبوت:

و في الحقيقة لن ترى دائماً التضخم واضحاً جلياً لك .. فليس شرطاً أن تجد عملات من فئة الألف و المليون كي
تقول أن هناك تضخم.. التضخم له عدة أنواع و أشكال... و من أشهر الأنواع هو التضخم المكبوت.. و هو بصورة عامة عبارة عن أن تقوم الدولة بفرض تسعيرة جبرية على السلع و الخدمات .. بحيث تجعل سعر السلعة غير واقعي و لا يعبر عن حالة السوق.. حتى لو نقص انتاج سلعة ما .. لن تجد ما يقابله بالضرورة من أرتفاع في السعر.. ستظل الاسعار الجبرية كما هي.. و هو ما سيخلق المشاهد المعتادة من طواربير بالعشرات ( و ربما مئات) .. في سبيل الحصول على السلع ..و هو بالطبع ما سيؤدي إلى وجود ظاهرة السوق السوداء بالطبع... و بالتبعية سيؤدي إلى أن تصبح كثير من المنتجات رديئة الصنع لا تصلح للاستهلاك الآدمي (أزمة رغيف الخبز كنموذج!)


آثار التضخم:

أما عن آثار التضخم فهي كثيرة و متعددة .. الأثر الأكبر و الأشهر هو أرتفاع الأسعار و تأثيره على محدودي الدخل .. خاصة و أن المرتبات لا ترتفع أبداً بنفس سرعة أرتفاع الأسعار.. لأن المرتبات تحكمها تشريعات و قوانين .. و هي لا تتغير في يوم و ليلة .. بل تحتاج للمزيد و المزيد من الوقت فلو زاد مستوى الأسعار على سبيل المثال بنسبة 40% فإن المرتبات بعد فترة ربما تزيد . .. و لكن بنسبة 10% أو ربما 5%

و لكن التضخم له آثار أقتصادية و أجتماعية أخرى أكثر من هذا..
فبداية ً.. يؤدي التضخم إلى إعادة توزيع الثروة في المجتمع .. فيزداد الغني غنى و يزداد الفقير فقراً.. فأرتفاع الاسعار يجعل هناك حالة من تراكم الثروة لدى أرباب العمل .. ليس هذا فحسب .. بل إن مقتنياتهم ستصبح أكثر قيمة.. فمن يملك بنايات أو أراضي سيتضاعف ثمنها ..
أما الفقير فلأنه لا دخل له سوى الراتب أو الأجر اليومي فسيزداد فقراً.. لأنه أولا لن تزيد المرتبات بنفس النسبة .. كما أنه عادة لا يملك أي مقتنيات يستفيد على اساسها من أرتفاع الاسعار

و على مستوى الدولة يؤثر التضخم على ميزان المدفوعات .. فكما وضحت أن التضخم نشأ بسبب انخفاض السلع المعروضة .. و هو ما سيؤدي لزيادة الواردات بالطبع لملاحقة الطلب...
كما أن الصادرات ستتجه إلى الانخفاض .. نظراً لأن التضخم سيؤدي إلى أرتفاع أسعار المواد الانتاجية .. مما سيفقد السلع التي تنتجها الدولة ميزة تنافسية هامة و هي السعر..

و التضخم يؤدي أيضاً إلى سوء استغلال موارد الدولة .. فعند حدوث ارتفاع في الأسعار.. يتجه المنتجون لأنتاج السلع ذات السعر المرتفع و التي عادة ما يهتم بها الأغنياء .. و ستهمل القوى الانتاجية السلع الضرورية لمحدودي الدخل.. و ستجد الكثير من محاولات لتخزين السلع و العملات الأجنبية ..

و من المعروف لنا أن المدخرات الشخصية للأفراد في البنوك هي احد المصادر الهامة لتمويل الاستثمار.. فالمبلغ الذي يدخره الشخص العادي في البنك مثلاً يذهب للمستثمر ليقيم به المشروعات و تزداد بذلك كمية العرض و تقل نسبة البطالة.. التضخم يقلل بصورة كبيرة من قدرة محدودي الدخل على الادخار..حيث يصبح الموظف راتبه لا يكفي متطلباته الاساسية ... فكيف يدخر ؟!
و بالطبع هذا سيؤدي بالتبعية للإلتجاء للتمويل الخارجي .. و ما يصحبه من مشاكل العملات الأجنبية

و من كل ما سبق نستطيع بكل بساطة ان نستنتج الاثر الاجتماعي للتضخم.. سيؤثر التضخم بالطبع على السلام الاجتماعي في المجتمع .. و يخلق حالة من الغضب لدى الطبقات الفقيرة تجاه الطبقات الغنية .. و ستنتشر الرشوة و الغش و الفساد..و ستظهر فئات من الاستغلاليين و المنتفعين ... و ما إلى ذلك من آثار لا تحتاج لتفنيد و شرح..


-----------------------------------------------------------------


مصادر المعلومات في المقال:
- عدد من مواقع الانترنت
- كتاب التحليل الاقتصادي الكلي 2004 ( كلية التجارة - جامعة عين شمس)
- اجتهادات شخصية !