السبت، 21 مايو 2011

العشرين جنيه بتاعتي


كان المسجد خاوياً بعد الفراغ من صلاة الجمعة إلا من قلة متفرقة في أنحاء المسجد.. منهم من يصلي و منهم من يمسك مصحفاً يقرأ فيه ... بينما كان إمام المسجد .. ..جالس بجوار المنبر ترى شفتاه تتحرك بدون صوت.. و عيناه تدور في جنبات المسجد دون هدف حقيقي ...

و في منتصف ساحة المسجد تقريباً يجلس شاب يبدو في منتصف العقد الثاني من عمره .. يجلس حائراً و على وجهه علامات التوتر.. لا يفعل شيئاً محدد... و لكنك تراه من حين لآخر ينظر للإمام بترقب..

فجأة قام هذا الشاب من مكانه و أتجه نحو الشيخ .. وجلس بجواره على الأرض و قال:

- السلام عليكم يا شيخ

- و عليكم السلام يابني !

- فيه مشكلة حصلت النهاردة في المسجد و مفيش حد هيحلها غيرك يا شيخ.

- خير؟!

- الموضوع يا شيخ أني اليوم قررت أن أتبرع بمبلغ مالي في صندوق المسجد.. و كان معي 21 جنيه .. ورقة بجنيه .. وأخرى بعشرين جنيه

- بارك الله فيك يا ولدي.. و ليه قلت لي .. دي صدقة و لازم تفضل في السر

- ياشيخ مش دي المشكلة .. المشكلة إني كنت قد نويت ان أضع جنيه في الصندوق.. إلا أنني وضعت بالغلط العشرين جنيهاً..

- مش فاهم .. وضح لي أكتر

- في الحقيقة كنت على باب المسجد بألبس الشبشب .. و كنت أنوي بعد ارتداء الشبشب أن أخرج الجنيه من جيب قميصي و أحطه في الصندوق.. إلا إني لمحت أمام المسجد واحد صاحبي كنت أريده في أمر هام.. فأخرجت الورقة أم عشرين جنيه بالغلط بسرعة من جيبي ووضعتها في الصندوق من غير ما أبص... و ما عرفتش إني حطيت الورقة الغلط غير لما طلعت الفلوس عشان أشتري حاجة

ابتسم الشيخ للشاب بهدوء و قال:

- و هي دي مشكلة ؟!.. حصل خير يا بني... سيضاعف الله لك باذن الله الأجر عشرين ضعفاً عن الأجر الذي كنت ستأخذه لو وضعت الجنيه...

بدا على وجه الشاب علامات الارتباك و الخجل حين رد على الشيخ قائلاً:

- و الله يا شيخ الحقيقة أن هي دي المشكلة .. أنا جاي لحضرتك عشان أسترد الـ 20 جنيه بتوعي..

نظر الشيخ له بدهشة و قال:

- ليه كده يابني.. حد يرجع عن صدقة دفعها لوجه الله ؟

- في الحقيقة يا شيخ أنا في ضائقة مالية.. انا تقريبا مفلس و فضيلتك تعرف أننا في آخر الشهر.. و تقريبا العشرين جنيه هي اللي معايا لآخر الشهر.. يا دوب هأصرف منها الاسبوع ده لحد ما أقبض اول الاسبوع اللي جاي ان شاء الله

- ماجاوبتش عن سؤالي.. إزاي يطاوعك قلبك تاخد فلوس طلعتها لله ..

- ما انا قلت لك يا شيخ .. ضائق مالية .. ثم أنا يا شيخ كنت ناوي أطلع جنيه مش عشرين .. فأنا عاوز أصحح النية

- لا تعرف تصحيح النية على مزاجك .. تصحيح النية معناه مراجعة الانسان لنواياه تجاه الأفعال التي يقوم بها في الدنيا .. و جعل النية دائماً لله .. اللي انت بتعمله دلوقتي ده رجوع عن الخير مش تصحيح للنية .. و إن كنت يا بني عاوز تصحح نيتك بجد .. يبقى تنوي انك تخرج العشرين جنيه كلها لله .. هو ده تصحيح النية مش تاخد الفلوس تاني

- طيب و أنا أعمل ايه دلوقتي؟.. أعيش باقي الشهر منين؟

- أنت متجوز؟

- لأ.. لسة والله يا شيخ .. الحالة تعبانة زي ما أنت عارف ..

- وعايش فين.. لوحدك و لا مع أهلك..

- و عايش مع أهلي ... هو أنا أقدر اعيش لوحدي؟ ده انا اموت من الجوع

- يعني عايش مع أهلك و معندكش مسئولية ... طيب ما تستلف من أبوك لحد آخر الشهر يابني و سيب العشرين جنيه لوجه الله .. و ربنا يكرمك ان شاء الله بنيتك الصالحة

- و نعم بالله .. بس ياشيخ العشرين جنيه اللي أنت بتتكلم عنها دي أنا أصلا سالفها من أبويا لحد آخر الشهر .. يادوب مصاريف مواصلات للشغل لحد آخر الأسبوع ده .. و بصراحة كده أنا بأشعر بالعار لما بأستلف من أبويا فلوس.. أبويا موظف محدود الدخل .. مرتبه يا دوب بيكفي البيت و اخواتي.. و انا بدل ما أخفف عنه و أساعده .. بأزود عليه العبء.. فعشان كده بصراحة مش هأقدر أروح أقوله هات فلوس تاني

- لا .. روح انت بس و قوله .. قوله انك حطيتها في الجامع .. و انا واثق إنه هيفرح بيك و هيديك فلوس تاني.. أصل الأبـ..

قاطعه الشاب بحدة - على غير المعتاد منذ بداية الحوار- قائلا:

- ياشيخ انت ليه مش راضي تفهمني.. بأقولك ابويا راجل على قد حاله .. و لسة واخد منه فلوس.. ثم أنا مش شايف انه حرام اني آخد الفلوس تاني.. دي فلوسي و أنا حر فيها ..ثم أنا أصلا غلبان و تجوز عليا الصدقة .. يعني المفروض آخد فوق العشرين جنيه دي عشرين تانية من صندوق المسجد كصدقة

ألتفتت القلة الموجودة بالمسجد لهما في فضول محاولة أن تعرف سر هذا الصوت المرتفع نسبياً

قال له الشيخ بغضب – و إن كانت نبره صوته هادئة- :

- تأدب يا ولد و أنت بتتكلم معايا .. أنت هنا في المسجد و بتكلم عالم

- آسف .. بس أنا نفسي تحس بيا يا شيخنا.. و تديني العشرين جنيه .. حتى على سبيل الصدقة

- آسف.. ما أقدرش

- متقدرش ليه .. هي الفلوس اتصرفت و لا إيه ؟

- لا .. ما أقدرش لأن إيه اللي يضمني إنك فعلا دفعت العشرين جنيه فعلا في الصندوق.. لازم تجيب لي ضمان

- انت بتكدبني و لا إيه يا شيخ ؟

- يابني المؤمن كيس فطن.. انا لا أكذبك و في نفس الوقت لا أصدقك بشكل أعمى .. لازم دليل قوي

نظر الشاب له بذهول بصوت مرتفع نسبيا:

- يعني إيه .. فلوسي راحت عليا؟؟

و بينما الشاب يتكلم توجه نحوهما رجل مسن من المتابعين للحوار في صمت و قال في نبرة فضول:

- خير يابني ايه المشكلة .. ايه يا مولانا الحكاية؟

هم الشاب بالكلام .. إلا أن الشيخ فوت عليه الفرصة و بادر هو بالحكي قائلاً:

- المشكلة يا سيدي إن الشاب ده كان عاوز يطلع جنيه صدقة لله .. قام غلط و حط عشرين جنيه بدل الجنيه .. و قال إيه عاوز ياخد فلوسه تاني

قال العجوز بلهجة استنكار مبالغ فيها :

- ايه ده .. أعوذ بالله .. الدنيا مبقاش فيها خير

قال الشاب بصوت عال غاضب :

- اعوذ بالله ايه يا عم الحاج؟.. هو أنا شيطان... يا حاج أنا مش معايا غير العشرين جنيه دي لآخر الشهر .. و أنا شرحت كل حاجة للشيخ .. شرحت له ان ظروفي صعبة و محتاج العشرين جنيه دي ضروري..

نظر العجوز للشيخ قائلاً:

- و ايه رأي مولانا في الموضوع ده

رد الشيخ قائلا:

- و الله أنا قلت له هات لي دليل انك دفعت عشرين جنيه ... يعني يرضيك يا سيدي الفاضل إن أي حد يجينا من بره يقول انا حاطط مبلغ معين من المال نروح نعطيه من غير ما نتأكد؟

- لا طبعا ازاي .. ايه دليلك يا واد انت على انك حطيت عشرين جنيه ..

- الشاب: و انا اجيب دليل منين .. أقولكم حاجة ؟.. هاتوا عامل المسجد يمكن يفتكر شكلي

قال الشيخ بنفاد صبر:

- حاضر يا سيدي هنادي لك عليه ..

و توجه بصوته ناحية حجرة الإمام حيث يجلس عرفة قائلا:" يا عرفة .. يا عرفة .. تعالى عاوزك"

يأتي عرفة للجمع و يخاطب الشيخ واقفا:

- خير يا مولانا ...

- انت فاكر الولد ده .. شفته النهاردة بيحط فلوس في الصندوق؟

يقول له الشاب مستعطفاً:

- ركز و النبي يا عرفة .. ركز أبوس إيدك .. و حياة ابوك يا شيخ.. فاكرنـ..

يقاطعه الشيخ غاضباً:

- اعوذ بالله .. ايه الشرك اللي انت بتقوله ده ... و النبي ؟.. و حياة ابوك ؟.. قول لا اله الا الله يا ولد

- لا اله الا الله .. استغفر الله العظيم .. بالله عليك يا عم عرفة ركز.. فاكرني؟؟؟

ينظر له عرفة بضجر و يقول :

- يا عم افتكر مين صلي على النبي... انا مخي مش دفتر .. طبعا مش فاكرك..

- يعني ايه .. خلاص كده .. مفيش عشرين جنيه ...و أنا اعمل ايه طيب؟؟

يقول العجوز بلهجة سخط:

- ايه يابني اللي انت فيه ده ... انت للدرجة دي بتحب الفلوس... ده جيل ما يعلم بيه الا ربنا ..

و يتبعه الشيخ قائلا:

- خلاص يابني روح لحال سبيلك .. مقدرش اديك اي حاجة ... ولو كنت فعلا دفعت عشرين جنيه يبقى صحح نيتك و ادعي ربنا يتقبلها منك بدل ما تروح عليك دنيا و آخرة

يقوم الشيخ من جلسته و يتجه لحجرته قائلا: " سلام عليكم "

يدخل الحجرة و يتبعه عرفة و ينصرف العجوز للركن الذي كان جالساً فيه يقرأ القرآن..

يجلس الشاب وحيداً بجوار المنبر و على وجهه علامات الحيرة و السخط....

بعد دقيقتين يجد الشيخ خارجاً من حجرته متجهاً صوب باب المسجد .. و قبل أن يخرج من الباب يتجه ناحيته مسرعاً و هو ينادي:

- يا شيخ .. طلب أخير بس

- طلب ايه بس .. مش قلنا خلاص الموضوع ده ..

- بس حلمك عليا .. يا شيخ أنا طالب صدقة .. طالب عشرين جنيه صدقة من اموال المسجد ... مش أنا فقير غلبان و تجوز عليا الصدقة ؟

- الصدقات للمساكين اللي لا حول لهم و لا قوة .. و أنت عندك أبوك يصرف عليك.. حتى لو كان على قد حاله .. انما على الاقل انت ضامن لقمتك و بيتك .. فيه أرامل و يتامى محتاجين الفلوس و حالتهم أغلب من الغلب.. حس بقى بالنعمة اللي انت فيها و أشكر ربنا ..

- بس يا شيخ..

- مفيش بس... و أرجوك لا تعطلني ..

يخرج الشيخ من باب المسجد ... و يعود الشاب ليأخذ شبشبه من داخل المسجد حيث وضعه وينصرف .. و قبل أن ينصرف يلمح أمامه صندوق الصدقة ... ينظر يميناً و يساراً حوله .. ثم ينظر للصندوق طويلاً قبل أن يخرج من جيبه الورقة فئة الجنيه.. يطبقها و يضعها في الصندوق و هو يقول:" حسبي الله و نعم الوكيل"

( تمت)

هناك تعليق واحد:

  1. لماذا السكوت على تفشي زنا المحارم في القاهرة والجيزة

    ردحذف